فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{وَأَعْتَدْنَا للكافرين عَذَابًا مُّهِينًا} أي أعددنا لهم ذلك ووضع المظهر موضع المضمر إشعارًا بأن من هذا شأنه فهو كافر لنعم الله تعالى، ومن كان كافرًا لنعمه فله عذاب يهينه كما أهان النعم بالبخل والإخفاء، ويجوز حمل الكفر على ظاهره، وذكر ضمير التعظيم للتهويل لأن عذاب العظيم عظيم، وغضب الحليم وخيم، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما قبلها. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
قوله: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ}... الآية البخل على لسان العلم منع الواجب، وعلى بيان الإشارة ترك الإيثار في زمان الاضطرار. وأمرُ الناسِ بالبخل معناه مَنْعُهم عن مطالبات الحقائق في معرِض الشفقة عليهم بموجب الشرع، وبيان هذا أن يقع بلسانك الانسلاخ عن العلائق وحذف فضولات الحالة فَمَن نصحه بأن يقول: ربما لا تَقْوَى على هذا، ولأن تكون مع معلومك الحلال أولى بأن تصير مكديًا، وربما تخرج إلى سؤال الناس وأن تكون كَلًا على المسلمين- ويَرْوِي له في هذا الباب الأخبار والآثار أمثال هذا... فلولا بُخْلُه المستكن في قلبه لأعانه بهمته فيما يسنح لقلبه بَدَلَ أن يمنع عنه ما (يجب أن) يقول في معرض النصح. ومن كانت هذه صفته أدركه عاجل المقت حيث أطفأ شرر إرادة ذلك المُسْتَضْعَفِ بما هو عند نفسه أنه نصيحة وشفقة في الشرع.
وقوله: {وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ}: إن كان الله أغناهم عن طلب الفضيلة بما خوَّلهم وآتاهم كتموا ذلك طمعًا في الزيادة على غير وجه الإذن.
ويقال يكتمون ما آتاهم الله من فضله إذا سألهم مريدٌ شيئًا عندهم فيه نجاته، وضنوا عليه بإرشاده. ويقال بخل الأغنياء بمنع النعمة، وبخْلُ الفقراء بمنع الهمة. اهـ.

.من فوائد ابن تيمية في الآية:

قال رحمه الله:
قَوْله تعالى: {إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ}.
فِي النِّسَاءِ وَفِي الْحَدِيدِ أَنَّهُ {لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} قَدْ تُؤُوِّلَتْ فِي الْبُخْلِ بِالْمَالِ وَالْمَنْعِ وَالْبُخْلِ بِالْعِلْمِ وَنَحْوِهِ وَهِيَ تَعُمُّ الْبُخْلَ بِكُلِّ مَا يَنْفَعُ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا مِنْ عِلْمٍ وَمَالٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ كَمَا تَأَوَّلُوا قَوْلَهُ: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} النَّفَقَةُ مِنْ الْمَالِ وَالنَّفَقَةُ مِنْ الْعِلْمِ. وَقَالَ مُعَاذٌ فِي الْعِلْمِ: تَعَلُّمُهُ لِمَنْ لَا يَعْلَمُهُ صَدَقَةٌ. وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: مَا تَصَدَّقَ رَجُلٌ بِصَدَقَةِ أَفْضَلَ مِنْ مَوْعِظَةٍ يَعِظُ بِهَا جَمَاعَةً فَيَتَفَرَّقُونَ وَقَدْ نَفَعَهُمْ اللَّهُ بِهَا. أَوْ كَمَا قَالَ. وَفِي الْأَثَرِ نِعْمَةُ الْعَطِيَّةِ وَنِعْمَت الْهَدِيَّةُ الْكَلِمَةُ مِنْ الْخَبَرِ يَسْمَعُهَا الرَّجُلُ ثُمَّ يُهْدِيهَا إلَى أَخ لَهُ أَوْ كَمَا قَالَ: وَهَذِهِ صَدَقَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَوَرَثَتُهُمْ الْعُلَمَاءُ؛ وَلِهَذَا كَانَ اللَّهُ وَمَلَائِكَتُهُ وَحِيتَانُ الْبَحْرِ وَطَيْرُ الْهَوَاءِ يُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ كَمَا أَنَّ كَاتِمَ الْعِلْمِ يَلْعَنُهُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُ اللَّاعِنُونَ وَبَسْطُ هَذَا كَثِيرٌ فِي فَضْلِ بَيَانِ الْعَلَمِ وَذَمِّ ضِدِّهِ. وَالْغَرَضُ هُنَا أَنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ الْمُخْتَالَ الْفَخُورَ الْبَخِيلَ بِهِ فَالْبَخِيلُ بِهِ الَّذِي مَنَعَهُ وَالْمُخْتَالُ إمَّا أَنْ يَخْتَالَ فَلَا يَطْلُبُهُ وَلَا يَقْبَلُهُ وَإِمَّا أَنْ يَخْتَالَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ فَلَا يَبْذُلُهُ وَهَذَا كَثِيرًا مَا يَقَعُ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ أَنَّهُ يَبْخَلُ بِمَا عِنْدَهُ مِنْ الْعِلْمِ وَيَخْتَالُ بِهِ وَأَنَّهُ يَخْتَالُ عَنْ أَنْ يَتَعَدَّى مِنْ غَيْرِهِ وَضِدُّ ذَلِكَ التَّوَاضُعُ فِي طَلَبِهِ وَبَذْلِهِ وَالتَّكَرُّمُ بِذَلِكَ.
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ- رَحِمَهُ اللَّهُ-:
فصل ذم الله للخيلاء والفخر والبخل:
قَدْ كَتَبْنَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ الْكَلَامَ عَلَى جَمْعِ اللَّهِ تَعَالَى بَيْنَ الْخُيَلَاءِ وَالْفَخْرِ وَبَيْنَ الْبُخْلِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} فِي النِّسَاءِ وَالْحَدِيدِ وَضِدُّ ذَلِكَ الْإِعْطَاءِ وَالتَّقْوَى الْمُتَضَمِّنَةِ لِلتَّوَاضُعِ كَمَا قَالَ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} وَقَالَ: {إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} وَهَذَانِ الْأَصْلَانِ هُمَا جِمَاعُ الدِّينِ الْعَامِّ كَمَا يُقَالُ التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ وَالرَّحْمَةُ لِعِبَادِ اللَّهِ. فَالتَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ يَكُونُ بِالْخُشُوعِ وَالتَّوَاضُعِ وَذَلِكَ أَصْلُ التَّقْوَى وَالرَّحْمَةُ لِعِبَادِ اللَّهِ بِالْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ وَهَذَانِ هُمَا حَقِيقَةُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فَإِنَّ الصَّلَاةَ مُتَضَمِّنَةٌ لِلْخُشُوعِ لِلَّهِ وَالْعُبُودِيَّةِ لَهُ وَالتَّوَاضُعِ لَهُ وَالذُّلِّ لَهُ وَذَلِكَ كُلُّهُ مُضَادٌّ لِلْخُيَلَاءِ وَالْفَخْرِ وَالْكِبْرِ. وَالزَّكَاةُ مُتَضَمِّنَةٌ لِنَفْعِ الْخَلْقِ وَالْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ وَذَلِكَ مُضَادٌّ لِلْبُخْلِ.
وَلِهَذَا وَغَيْرِهِ كَثَّرَ الْقِرَانُ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الصَّلَاةَ بِالْمَعْنَى الْعَامِّ تَتَضَمَّنُ كُلَّ مَا كَانَ ذِكْرًا لِلَّهِ أَوْ دُعَاءً لَهُ كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: مَا دُمْت تَذْكُرُ اللَّهَ فَأَنْتَ فِي صَلَاةٍ وَلَوْ كُنْت فِي السُّوقِ وَهَذَا الْمَعْنَى- وَهُوَ دُعَاءُ اللَّهِ أَيْ قَصْدُهُ وَالتَّوَجُّهُ إلَيْهِ الْمُتَضَمِّنُ ذِكْرَهُ عَلَى وَجْهِ الْخُشُوعِ وَالْخُضُوعِ- هُوَ حَقِيقَةُ الصَّلَاةِ الْمَوْجُودَةِ فِي جَمِيعِ مَوَارِدِ اسْمِ الصَّلَاةِ كَصَلَاةِ الْقَائِمِ وَالْقَاعِدِ وَالْمُضْطَجِعِ. وَالْقَارِئِ وَالْأُمِّيِّ وَالنَّاطِقِ وَالْأَخْرَسِ وَإِنْ تَنَوَّعَتْ حَرَكَاتُهَا وَأَلْفَاظُهَا فَإِنَّ إطْلَاقَ لَفْظِ الصَّلَاةِ عَلَى مَوَارِدِهَا هُوَ بِالتَّوَاطُؤِ الْمُنَافِي لِلِاشْتِرَاكِ وَالْمَجَازِ وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. إذْ مِنْ النَّاسِ مَنْ ادَّعَى فِيهَا الِاشْتِرَاكَ وَمِنْهُمْ مَنْ ادَّعَى الْمَجَازَ بِنَاءً عَلَى كَوْنِهَا مَنْقُولَةً مِنْ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ أَوْ مَزِيدَةً أَوْ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ؛ بَلْ اسْمُ الْجِنْسِ الْعَامِّ الْمُتَوَاطِئِ الْمُطْلَقِ إذَا دَلَّ عَلَى نَوْعٍ أَوْ عَيْنٍ كَقَوْلِك هَذَا الْإِنْسَانُ وَهَذَا الْحَيَوَانُ أَوْ قَوْلِك: هَاتِ الْحَيَوَانَ الَّذِي عِنْدَك وَهِيَ غَنَمٌ فَهُنَا اللَّفْظُ قَدْ دَلَّ عَلَى شَيْئَيْنِ: عَلَى الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكِ الْمَوْجُودِ فِي جَمِيعِ الْمَوَارِدِ وَعَلَى مَا يَخْتَصُّ بِهِ هَذَا النَّوْعُ أَوْ الْعَيْنُ. فَاللَّفْظُ الْمُشْتَرَكُ الْمَوْجُودُ فِي جَمِيعِ التَّصَارِيفِ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ وَمَا قُرِنَ بِاللَّفْظِ مِنْ لَامِ التَّعْرِيفِ مَثَلًا أَوْ غَيْرِهَا دَلَّ عَلَى الْخُصُوصِ وَالتَّعْيِينِ وَكَمَا أَنَّ الْمَعْنَى الْكُلِّيَّ الْمُطْلَقَ لَا وُجُودَ لَهُ فِي الْخَارِجِ فَكَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الِاسْتِعْمَالِ لَفْظٌ مُطْلَقٌ مُجَرَّدٌ عَنْ جَمِيعِ الْأُمُورِ الْمُعَيَّنَةِ. فَإِنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا يُفِيدُ بَعْدَ الْعَقْدِ وَالتَّرْكِيبِ وَذَلِكَ تَقْيِيدٌ وَتَخْصِيصٌ كَقَوْلِك أَكْرِمْ الْإِنْسَانَ أَوْ الْإِنْسَانُ خَيْرٌ مِنْ الْفَرَسِ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: {أَقِمِ الصَّلَاةَ} وَنَحْوِ ذَلِكَ وَمِنْ هُنَا غَلِطَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فِي الْمَعَانِي الْكُلِّيَّةِ حَيْثُ ظَنُّوا وُجُودَهَا فِي الْخَارِجِ مُجَرَّدَةً عَنْ الْقُيُودِ وَفِي اللَّفْظِ الْمُتَوَاطِئِ حَيْثُ ظَنُّوا تَجَرُّدَهُ فِي الِاسْتِعْمَالِ عَنْ الْقُيُودِ. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّهُ لَا يُوجَدُ الْمَعْنَى الْكُلِّيُّ الْمُطْلَقُ فِي الْخَارِجِ إلَّا مُعَيَّنًا مُقَيَّدًا وَلَا يُوجَدُ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَيْهِ فِي الِاسْتِعْمَالِ إلَّا مُقَيَّدًا مُخَصَّصًا وَإِذَا قُدِّرَ الْمَعْنَى مُجَرَّدًا كَانَ مَحَلُّهُ الذِّهْنَ وَحِينَئِذٍ يُقَدَّرُ لَهُ لَفْظٌ مُجَرَّدٌ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الِاسْتِعْمَالِ مُجَرَّدًا. والْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ اسْمَ الصَّلَاةِ فِيهِ عُمُومٌ وَإِطْلَاقٌ وَلَكِنْ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا مَقْرُونًا بِقَيْدِ إنَّمَا يَخْتَصُّ بِبَعْضِ مَوَارِدِهِ كَصَلَوَاتِنَا وَصَلَاةِ الْمَلَائِكَةِ وَالصَّلَاةِ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَإِنَّمَا يَغْلَطُ النَّاسُ فِي مِثْلِ هَذَا حَيْثُ يَظُنُّونَ أَنَّ صَلَاةَ هَذَا الصِّنْفِ مِثْلُ صَلَاةِ هَذَا مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِثْلَ هَذَا فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِثْلُهُ لَمْ يَجِبْ أَنْ تَكُونَ صِلَاتُهُ مِثْلَ صِلَاتِهِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا قَدْرٌ مُتَشَابِهٌ كَمَا قَدْ حَقَّقْنَا هَذَا فِي الرَّدِّ عَلَى الِاتِّحَادِيَّةِ وَالْجَهْمِيَّة والمتفلسفة وَنَحْوِهِمْ.
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ أَسْمَاءُ اللَّهِ وَصِفَاتُهُ الَّتِي يُسَمَّى وَيُوصَفُ الْعِبَادُ بِمَا يُشْبِهُهَا كَالْحَيِّ وَالْعَلِيمِ وَالْقَدِيرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ اسْمُ الزَّكَاةِ هُوَ بِالْمَعْنَى الْعَامِّ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ» وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ» وَأَمَّا الزَّكَاةُ الْمَالِيَّةُ الْمَفْرُوضَةُ فَإِنَّمَا تَجِبُ عَلَى بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَالزَّكَاةُ الْمُقَارِنَةُ لِلصَّلَاةِ تُشَارِكُهَا فِي أَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ: يَعْمَلُ بِيَدِهِ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ؟ قَالَ: يُعِينُ صَانِعًا أَوْ يَصْنَعُ لِأَخْرَقَ قَالُوا فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ؟ قَالَ: يَكُفُّ نَفْسَهُ عَنْ الشَّرِّ». وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ وَغَيْرِهِ: «عَلَى كُلِّ سلامي مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ فَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ وَنَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ» فَهَذَا- إنْ شَاءَ اللَّهُ- كَتَضَمُّنِ هَذِهِ الْأَعْمَالِ نَفْعَ الْخَلَائِقِ فَإِنَّهُ بِمِثْلِ هَذَا الْعَمَلِ يَحْصُلُ الرِّزْقُ وَالنَّصْرُ وَالْهُدَى فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ الصَّدَقَةِ عَلَى الْخَلْقِ. ثُمَّ إنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ هِيَ مِنْ جِنْسِ الصَّلَاةِ وَجِنْسُ الصَّلَاةِ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ الْغَيْرُ يَتَضَمَّنُ الْمَعْنَيَيْنِ الصَّلَاةَ وَالصَّدَقَةَ أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ صَلَاةٌ وَصَدَقَةٌ؟ وَكَذَلِكَ كُلُّ دُعَاءٍ لِلْغَيْرِ وَاسْتِغْفَارٍ مَعَ أَنَّ الدُّعَاءَ لِلْغَيْرِ دُعَاءٌ لِلنَّفْسِ أَيْضًا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «مَا مِنْ رَجُلٍ يَدْعُو لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ بِدَعْوَةِ إلَّا وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ مَلَكًا كُلَّمَا دَعَا لَهُ بِدَعْوَةِ قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ: آمِينَ وَلَك بِمِثْلِ».
وَقَالَ:
فصل في ضعف الآدمي وجبروته:
قَوْلُ النَّاسِ: الْآدَمِيُّ جَبَّارٌ ضَعِيفٌ أَوْ فُلَانٌ جَبَّارٌ ضَعِيفٌ؛ فَإِنَّ ضَعْفَهُ يَعُودُ إلَى ضَعْفِ قُوَاهُ مِنْ قُوَّةِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَأَمَّا تَجَبُّرُهُ فَإِنَّهُ يَعُود إلَى اعْتِقَادَاتِهِ وَإِرَادَاتِهِ أَمَّا اعْتِقَادُهُ فَأَنْ يُتَوَهَّمَ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ أَمْرٌ عَظِيمٌ فَوْقَ مَا هُوَ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ وَهَذَا هُوَ الِاخْتِيَالُ وَالْخُيَلَاءُ وَالْمَخِيلَةُ وَهُوَ أَنْ يَتَخَيَّلَ عَنْ نَفْسِهِ مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ. وَمِمَّا يُوجِبُ ذَلِكَ مَدْحَهُ بِالْبَاطِلِ نَظْمًا وَنَثْرًا وَطَلَبَهُ لِلْمَدْحِ الْبَاطِلِ فَإِنَّهُ يُورِثُ هَذَا الِاخْتِيَالَ. وَأَمَّا الْإِرَادَةُ فَإِرَادَةُ أَنْ يَتَعَظَّمَ وَيُعَظِّمَ وَهُوَ إرَادَةُ الْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ وَالْفَخْرِ عَلَى النَّاسِ وَهُوَ أَنْ يُرِيدَ مِنْ الْعُلُوِّ مَا لَا يَصْلُحُ لَهُ أَنْ يُرِيدَهُ وَهُوَ الرِّئَاسَةُ وَالسُّلْطَانُ حَتَّى يَبْلُغَ بِهِ الْأَمْرُ إلَى مُزَاحَمَةِ الرُّبُوبِيَّةِ كَفِرْعَوْنَ وَمُزَاحَمَةِ النُّبُوَّةِ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي جِنْسِ الْعُلَمَاءِ وَالْعِبَادِ وَالْأُمَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ.
وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الِاعْتِقَادِ وَالْإِرَادَةِ يَسْتَلْزِمُ جِنْسَ الْآخَرِ؛ فَإِنَّ مَنْ تَخَيَّلَ أَنَّهُ عَظِيمٌ أَرَادَ مَا يَلِيقُ بِذَلِكَ الِاخْتِيَالِ وَمَنْ أَرَادَ الْعُلُوَّ فِي الْأَرْضِ فَلابد أَنْ يَتَخَيَّلَ عَظَمَةَ نَفْسِهِ وَتَصْغِيرَ غَيْرِهِ حَتَّى يَطْلُبَ ذَلِكَ فَفِي الْإِرَادَةِ يَتَخَيَّلُهُ مَقْصُودًا وَفِي الِاعْتِقَادِ يَتَخَيَّلُهُ مَوْجُودًا وَيَطْلُبُ تَوَابِعَهُ مِنْ الْإِرَادَاتِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْكِبَرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ» فَالْفَخْرُ يُشْبِهُ غَمْطَ النَّاسِ فَإِنَّ كِلَيْهِمَا تَكَبُّرٌ عَلَى النَّاسِ. وَأَمَّا بَطَرُ الْحَقِّ- وَهُوَ جَحْدُهُ وَدَفْعُهُ- فَيُشْبِهُ الِاخْتِيَالَ الْبَاطِلَ فَإِنَّهُ تَخَيَّلَ أَنَّ الْحَقَّ بَاطِلٌ بِجَحْدِهِ وَدَفْعِهِ. ثُمَّ هُنَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا أَنْ يَجْعَلَ الِاخْتِيَالَ وَبَطَرَ الْحَقِّ مِنْ بَابِ الِاعْتِقَادَاتِ وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ الْحَقَّ بَاطِلًا وَالْبَاطِلَ حَقًّا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِتَعْظِيمِ النَّفْسِ وَعُلُوِّ قَدْرِهَا فَيَجْحَدُ الْحَقَّ الَّذِي يُخَالِفُ هَوَاهَا وَعُلُوَّهَا وَيَتَخَيَّلُ الْبَاطِلَ الَّذِي يُوَافِقُ هَوَاهَا وَعُلُوَّهَا وَيَجْعَلُ الْفَخْرَ وَغَمْطَ النَّاسِ مِنْ بَابِ الْإِرَادَاتِ فَإِنَّ الْفَاخِرَ يُرِيدُ أَنْ يَرْفَعَ نَفْسَهُ وَيَضَعَ غَيْرَهُ وَكَذَلِكَ غَامِطُ النَّاسِ. يُؤَيِّدُ هَذَا مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ المجاشعي عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إنَّهُ أُوحِيَ إلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَلَا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ» فَبَيَّنَ أَنَّ التَّوَاضُعَ الْمَأْمُورَ بِهِ ضِدَّ الْبَغْيِ وَالْفَخْرِ. «وَقَالَ فِي الْخُيَلَاءِ الَّتِي يُبْغِضُهَا اللَّهُ: الِاخْتِيَالُ فِي الْفَخْرِ وَالْبَغْيِ»... فَكَانَ فِي ذَلِكَ مَا دَلَّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِطَالَةَ عَلَى النَّاسِ إنْ كَانَتْ بِغَيْرِ حَقٍّ فَهِيَ بَغِيٌّ؛ إذْ الْبَغْيُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ. وَإِنْ كَانَتْ بِحَقِّ فَهِيَ الْفَخْرُ؛ لَكِنْ يُقَالُ عَلَى هَذَا: الْبَغْيُ يَتَعَلَّقُ بِالْإِرَادَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ هُوَ مِنْ بَابِ الِاعْتِقَادِ وَقَسِيمُهُ مِنْ بَابِ الْإِرَادَةِ بَلْ الْبَغْيُ كَأَنَّهُ فِي الْأَعْمَالِ وَالْفَخْرُ فِي الْأَقْوَالِ أَوْ يُقَالُ: الْبَغْيُ بَطَرُ الْحَقِّ وَالْفَخْرُ غَمْطُ النَّاسِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَا جَمِيعًا مُتَعَلِّقَيْنِ بِالِاعْتِقَادِ وَالْإِرَادَةِ لَكِنَّ الْخُيَلَاءَ غَمْطُ الْحَقِّ يَعُودُ إلَى الْحَقِّ فِي نَفْسِهِ الَّذِي هُوَ حَقُّ اللَّهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ آدَمِيٍّ وَالْفَخْرُ وَغَمْطُ النَّاسِ يَعُودُ إلَى حَقِّ الْآدَمِيِّينَ؛ فَيَكُونُ التَّنْوِيعُ لِتَمْيِيزِ حَقِّ الْآدَمِيِّينَ مِمَّا هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ لَا يَتَعَلَّقُ بالْآدَمِيِّينَ؛ بِخِلَافِ الشَّهْوَةِ فِي حَالِ الزِّنَا وَأَكْلِ مَالِ الْغَيْرِ: فَلَمَّا قَالَ سُبْحَانَهُ: {إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} وَالْبُخْلُ مَنْعُ النَّافِعِ: قَيَّدَ هَذَا بِهَذَا وَقَدْ كَتَبْت فِيمَا قَبْلَ هَذَا مِنْ التَّعَالِيقِ: الْكَلَامُ فِي التَّوَاضُعِ وَالْإِحْسَانِ وَالْكَلَامُ فِي التَّكَبُّرِ وَالْبُخْلِ. اهـ.

.من فوائد ابن عاشور في الآية:

قال رحمه الله:
{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ}.
يجوز أن يكون استئنافًا ابتدائيًا، جيء به عقب الأمر بالإحسان لمن جرى ذكرهم في الجملة السابقة، ومناسبة إرداف التحريض على الإحسان بالتحذير من ضدهّ وما يشبه ضدّه من كلّ إحسان غير صالح؛ فقوبل الخُلق الذي دعاهم الله إليه بأخلاق أهل الكفر وحِزب الشيطان كما دلّ عليه ما في خلال هذه الجملة من ذِكر الكافرين الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر.
فيكون قوله: {الذين يبخلون} مبتدأ، وحُذف خبره ودَلّ عليه قولُه: {وأعتدنا للكافرين عذابًا مهينًا}.
وقُصد العدول عن العطف: لتكون مستقلّة، ولما فيه من فائدة العموم، وفائدة الإعلام بأنّ هؤلاء من الكافرين.
فالتقدير: الذين يبخلون أعتدنا لهم عذابًا مهينا وأعتدنا ذلك للكافرين أمثالهم. اهـ.